فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة الجن مكية، وآياتها 28، نزلت بعد الأعراف.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

.[الجن: الآيات 1- 5]

{قُلْ أوحي إليّ أنّهُ اسْتمع نفرٌ مِن الْجِنِّ فقالوا إِنّا سمِعْنا قرآنا عجبا (1) يهْدِي إِلى الرُّشْدِ فآمنّا بِهِ ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا (2) وأنّهُ تعالى جدُّ ربِّنا ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا (3) وأنّهُ كان يقول سفِيهُنا على اللّهِ شططا (4) وأنّا ظننّا أنْ لنْ تقول الْإِنْسُ والْجِنُّ على اللّهِ كذِبا (5)}
قرئ: {أحى}، وأصله وحى، يقال: أوحى إليه ووحى إليه، فقلبت الواو همزة، كما يقال: أعد وأزن {وإِذا الرُّسُلُ أُقِّتتْ} وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة، وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبى عبلة: {وحى} على الأصل {أنّهُ اسْتمع} بالفتح، لأنه فاعل أوحى. و{إنا سمعنا}: بالكسر: لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحى فتح، وما كان من قول الجنّ كسر وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين و{أنّ الْمساجِد}، {وأنّهُ لمّا قام} ومن فتح كلهنّ فعطفا على محل الجار والمجرور في {آمنا} به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي نفرٌ مِن الْجِنِّ جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وقيل: كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجنّ عددا وعامة جنود إبليس منهم فقالوا إِنّا سمِعْنا أى: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله: {فلمّا قُضِي ولّوْا إِلى قوْمِهِمْ مُنْذِرِين قالوا يا قوْمنا إِنّا سمِعْنا} كِتابا، عجبا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب. وفيه مبالغة: وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره {يهْدِي إِلى الرُّشْدِ} يدعو إلى الصواب. وقيل: إلى التوحيد والإيمان. والضمير في بِهِ للقرآن، ولما كان الإيمان به إيمانا باللّه وبوحدانيته وبراءة من الشرك: قالوا: {ولنْ نُشْرِك بِربِّنا أحدا} أى: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير للّه عز وجل، لأنّ قوله: {بِربِّنا} يفسره {جدُّ ربِّنا} عظمته من قولك: جدّ فلان في عينى، أى: عظم. وفي حديث عمر رضى اللّه عنه: «كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا» وروى في أعيننا. أو ملكه وسلطانه. أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت، لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون. والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. أو لسلطانه وملكوته. أو لغناه. وقوله: {ما اتّخذ صاحِبة ولا ولدا} بيان لذلك. وقرئ: {جدّا ربنا}، على التمييز. و{جدّ ربنا}، بالكسر: أى صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان: تنبهوا على الخطإ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه اللّه بخلقه واتخاذه صاحبة وولدا، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه اللّه أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم، إذا أبعد فيه، أى: يقول قولا هو في نفسه شطط، لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى اللّه، وكان في ظننا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على اللّه ولن يفترى عليه ما ليس بحق، فكنا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم كذِبا قولا كذبا، أى: مكذوبا فيه. أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول. ومن قرأ: {أن لن تقول}: وضع كذبا موضع تقولا، ولم يجعله صفة، لأنّ التقول لا يكون إلا كذبا.

.[الجن: الآيات 6- 7]

{وأنّهُ كان رِجالٌ مِن الْإِنْسِ يعُوذُون بِرِجالٍ مِن الْجِنِّ فزادُوهُمْ رهقا (6) وأنّهُمْ ظنُّوا كما ظننْتُمْ أنْ لنْ يبْعث اللّهُ أحدا (7)}.
والرهق: غشيان المحارم. والمعنى: أنّ الإنس باستعاذتهم بهم زادوهم كبرا وكفرا، وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك رهقهم. أو فزاد الجن الإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم {وأنّهُمْ} وأنّ الإنس {ظنُّوا كما ظننْتُمْ} وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض.
وقيل: الآيتان من جملة الوحى. والضمير في {وأنّهُمْ ظنُّوا} للجنّ، والخطاب في {ظننْتُمْ} لكفار قريش.

.[الجن: الآيات 8- 9]

{وأنّا لمسْنا السّماء فوجدْناها مُلِئتْ حرسا شدِيدا وشُهُبا (8) وأنّا كُنّا نقْعُدُ مِنْها مقاعِد لِلسّمْعِ فمنْ يسْتمِعِ الْآن يجِدْ لهُ شِهابا رصدا (9)}.
اللمس: المس، فاستعير للطلب، لأنّ الماس طالب متعرّف. قال:
مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا ** إلى نسب في قومه غير واضع

يقال: لمسه والتمسه وتلمسه (كطلبه وأطلبه وتطلبه) ونحوه: الجس. وقولهم جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحرّاس، كالخدم في معنى الخدّام، ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل: شدادا، ونحوه:
أخشى رجيلا أو ركيبا غاديا

لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع للراصد، على معنى: ذوى شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب، بمعنى الراصد أو كقوله:
... ومعى جياعا

يعنى. يجد شهابا راصدا له ولأجله. فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال اللّه تعالى: {ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ} فذكر فائدتين في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟ قلت: قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث، وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية. قال بشر بن أبى خازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها ** ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

وقال أوس بن حجر:
وانقضّ كالدّرّي يتبعه ** نقع يثور تخاله طنبا

وقال عوف بن الخرع:
يردّ علينا العير من دون إلفه ** أو الثّور كالدّرّىّ يتبعه الدّم

ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلا. وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: {وأنّا كُنّا نقْعُدُ} فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن على بن الحسين عن ابن عباس رضى اللّه عنهما: «بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم».
وفي قوله: {مُلِئتْ} دليل على أن الحادث هو المل والكثرة، وكذلك قوله: {نقْعُدُ مِنْها مقاعِد} أى كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.

.[الجن: آية 10]

{وأنّا لا ندْرِي أشرٌّ أُرِيد بِمنْ فِي الْأرْضِ أمْ أراد بِهِمْ ربُّهُمْ رشدا (10)}.
يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق، قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده اللّه بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شرا أو رشدا، أى: خيرا، من عذاب أو رحمة، أو من خذلان أو توفيق.

.[الجن: آية 11]

{وأنّا مِنّا الصّالِحُون ومِنّا دُون ذلِك كُنّا طرائِق قِددا (11)}.
{مِنّا الصّالِحُون} منا الأبرار المتقون {ومِنّا دُون ذلِك} ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، كقوله: {وما مِنّا إِلّا لهُ مقامٌ معْلُومٌ} وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه. أو أرادوا الطالحين {كُنّا طرائِق قِددا} بيان للقسمة المذكورة، أى: كنا ذوى مذاهب مفترقة مختلفة. أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنا في طرائق مختلفة، كقوله:
كما عسل الطّريق الثّعلب

أو كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه والقدّة من قدّ، كالقطعة من قطع، ووصفت الطرائق بالقدد، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق.

.[الجن: آية 12]

{وأنّا ظننّا أنْ لنْ نُعْجِز اللّه فِي الْأرْضِ ولنْ نُعْجِزهُ هربا (12)}.
{فِي الْأرْضِ} وهربا حالان، أى: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم: منهم أخيار، وأشرار، ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أنّ اللّه عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب.

.[الجن: آية 13]

{وأنّا لمّا سمِعْنا الْهُدى آمنّا بِهِ فمنْ يُؤْمِنْ بِربِّهِ فلا يخافُ بخْسا ولا رهقا (13)}.
{لمّا سمِعْنا الْهُدى} هو سماعهم القرآن وإيمانهم به {فلا يخافُ} فهو لا يخاف، أى فهو غير خائف، ولأنّ الكلام في تقدير مبتدإ وخبر دخلت الفاء، ولولا ذاك لقيل: لا يخف. فإن قلت: أى فائدة: في رفع الفعل وتقدير مبتدإ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال. لا يخف؟ قلت: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وقرأ الأعمش: {فلا يخف}، على النهى {بخْسا ولا رهقا} أى جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزاءهما. وفيه دلالة على أن من حق من آمن باللّه أن يجتنب المظالم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم» ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة، من قوله عز وجل: {وترْهقُهُمْ ذِلّةٌ}.

.[الجن: الآيات 14- 15]

{وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون فمنْ أسْلم فأُولئِك تحرّوْا رشدا (14) وأمّا الْقاسِطُون فكانُوا لِجهنّم حطبا (15)}.
{الْقاسِطُون} الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضى اللّه عنه: أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فىّ؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله تعالى: {أمّا الْقاسِطُون} وقوله تعالى: {ثُمّ الّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ يعْدِلُون} وقد زعم من لا يرى للجن ثوابا أنّ اللّه تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم، وكفى به وعدا أن قال: {فأُولئِك تحرّوْا رشدا} فذكر سبب الثواب وموجبه، واللّه أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.